Image Not Found

رجل شجاع من مطرح

عبدالله الفارسي – الرؤية

كان من أهالي مطرح وسكانها، لا أعرف إلى أي جزء ينتمي من ولاية مطرح الكبيرة، لكنه كان “مطرحيا” بامتياز، التقيته ذات صدفة بعد سنوات طويلة في سوق مطرح ذاك السوق الذي تلتقي فيه بكل مفقوداتك، وتعثر فيه على أصدقائك.

لم أعرفه في بداية الأمر لأنني كنت أسير خلفه كان شبه عجوز أكبر مما تخيلت، لم أصدق بأنَّ الزمن يُمكن أن يعبث بالإنسان بهذه الصورة المشينة، وأن الحياة يُمكن أن تحني ظهر الرجال وهم في مُنتصف العمر.

كان يمشي بصعوبة أمامي منحنياً انحناءة بينة ظاهرة، قررت أن أتجاوزه لأتأكد هل هذا هو الرجل الذي أعرفه. تجاوزته دون أن أنظر إليه حتى لا يشعر بتطفلي وفضولي؛ فمثل هولاء النَّاس حساسون جدًا، لا يستسيغون الفضول ويغضبون من تطفل العيون، خاصة هذا الصنف من الرجال الذين هم رجال بمعنى الكلمة. ابتعدت عنه مسافة عشرين متراً ثمَّ عدت من جديد باتجاهه فوقعت عيني على عينه وقوع الحافر على الحافر فعرفني وعرفته، كان لقاؤنا ساخناً دافئاً، فحملته في حضني، وأخذني في صدره.

التقيت هذا الرجل ذات صيف من العام 1993 على كورنيش مطرح، كنت أتسكع هناك في ذلك الصيف الرطب المزعج، كنت أقطع كورنيش الميناء ذهاباً وإياباً، فصادفته يمشي ويتريض مثلي. فالتقينا في نفس المسار وقررنا أن نترافق ونُمارس رياضة المشي معا وأحيانا نتسابق، فالمشي مع رفيق، أي رفيق يكنس الملل ويقتل الوقت ويُبهج الفؤاد. كان رجلاً رياضيًا يملك قبضتين قويتين وكتفا عريضا وملامح متفجرة بالرجولة والأنفة.

كان شكله يضفي عليه كثيراً من الهيبة والوقار، لم نتبادل الأسماء ولم نتعارف ولكننا دخلنا في دردشات طويلة جداً على طول مسافة الكورنيش لا أذكر منها شيئاً أبدًا.

لكن الذي أذكره هو ذلك الموقف الذي صادفناه أمامنا ونحن نمشي في ذلك الميناء البحري الجميل، ويشاركنا فيه عشرات الناس والمشاة، صادفنا موقفاً سخيفاً للغاية.

كانت هناك فتاة أوروبية جالسة على رصيف الميناء، وكان يحوم حولها ستة من الشباب كأنَّهم ذبابات تحول على قطعة من السكر، كانوا يضايقونها، الفتاة كانت شبه عارية نعم، لكن ذلك لا يمنح الرجل أيِّ رجل تصريح بالتحرش بها أو بغيرها.

ورغم مضايقاتهم كانت الفتاة صامتة صبورة، لم تعرهم اهتماماً، ولم تمنحهم نظرة ولا التفاتة ولا صرخة ولا نهرة. كانوا شباباً كبار الجسم كلهم يملكون بنية جسمانية وعرضا وطولا.

في البداية لم نعتقد أبداً بأنَّ هولاء الشباب سيتطور معهم الأمر إلى درجة مسك الفتاة وتكتيفها في مكان عام كهذا والتحرش بها علانية وجهارًا، لأنَّ مثل هذه السلوكيات نادرة الحدوث في وطننا، خاصة في مكان عام كهذا.

كلما أقتربنا منهم اكتشفنا بأن الموضوع أصبح لا يطاق ولايُمكن السكوت عنه أو تجاوزه بأيِّ حال من الأحوال، حين سمعنا الفتاة تستنجد وتصرخ “ساعدوني” بعدما قام أحدهم بمسكها من يديها والتف البقية حولها، فجأة قفز رفيقي والذي لا أعرف اسمه، وفي أقل من لحظة أمسك بالشاب الذي كان ماسكا الفتاة من يده وطرحه أرضاً بطريقة سريعة، لم أتمكن من التقاط حيثياتها أو حتى تصويرها، فقفز الخمسة الآخرون فوقه كأنهم دبابير واختفى بينهم، حاولت أن أساعد رفيقي واقتحمهم لكني لم أتمكن من الوصول إليه لقد كانوا يطوقونه من كل الاتجاهات، لكن اتضح أنَّ رفيقي لا يحتاج إلى مساعدتي، ففي ثوانٍ فقط رأيت الشباب الستة يتناثرون في الهواء ويتساقطون كعلب معدنية فارغة. لا أعرف كيف!!

وخرج من بينهم وأخذ يبصق في وجوههم واحدا واحدا وهم يتلوون في أرضية الرصيف، ويصرخ فيهم: عليكم اللعنة أنتم وتربيتكم.

وأكمل طريقه كأنَّه لم يحدث شيئاً، ودون أن يلتفت للفتاة وهي تبتسم وتشكره بحرارة.

فقالت لي: صديقك هذا رجل عجيب، كيف بعثرهم من فوقه بهذه الطريقة كنت أظن أنهم سيقتلونه؟

فقلت لها: حتى أنا ما زلت غير مُصدق لما رأيت أمامي قبل قليل، بالتأكيد لم يكن ما رأيت منظرًا من فيلم بوليوودي وحتماً لم يكن مقطعاً هوليووديا! لكنه كان موقفاً “مطرحيا بامتياز”.

هناك بشر يملكون هذه القوة، ويتمتعون بهذه الشجاعة والفتوة، كان ذلك الرجل الذي هزم ستة شباب في عشرين ثانية ومسح بهم الأرض، هو هذا الرجل الذي احضنه الآن ويحضنني وقد التهمه الزمن، ونال من جسده، لكنني حين حضنته شعرت بأنَّ روحه ما زالت معبأة بالرجولة مشحونة بالشجاعة والجرأة.

وقبل أن نفترق قلت له: واصل حياتك يا صديقي ولا تكترث بانحناء الظهر، فأنا على يقين بأنَّ روحك لن تنحني أبداً. وسبحان الله واهب الحال ومُغير الأحوال.